الإيمان وامتثال الأوامر
ولنأخذ مثالاً على ذلك، لما بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان العرب يشربون الخمر، وبقي الأمر كذلك إلى أول الإسلام، ونزل الأمر بتحريمها تدريجياً، ولما نزل الأمر الصريح ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ))[المائدة:91] قالوا: انتهينا انتهينا، ولما نادى المنادي في المدينة: إن الله تعالى قد حرم الخمر، ماذا حصل؟!
أريقت الخمور في جميع أنحاء المدينة حتى جرت في الشوارع والأزقة كالأنهار!! بلا تفتيش ولا لجنة ولا هيئة ولاشيء من هذا القبيل!! لأن الإيمان بالله عز وجل قد ثبت في قلوبهم؛ وعندما كان يوجد هناك احتمال أنها حلال أو حرام، كانت موجودة طبيعياً وعفوياًَ، لكن عندما أصبحت حراماً، قالوا: انتهينا انتهينا يا رب العالمين، فأراقوها وتخلصوا من أذاها؛ فهل هذا العمل هين على النفوس؟!
وهل هذا هين على إنسان يدمن الخمر أن يترك الخمر؟!
صعب جداً، فكم من إنسان يقول: يا ليتني أترك الدخان! لكن لا أستطيع، وشارب الخمر لا يجاهر بذلك لكن المدخن يقول ذلك، لأن الإدمان شيء يملك الأعصاب، ويملك الحس، لكن مع الإيمان لا يوجد شيء اسمه إدمان، ولا يوجد شيء اسمه مستحيل، فمع الإيمان بالله عز وجل رفضت الخمر وأريقت، وصحت القلوب، وصحت العقول من الخمر، لماذا؟
لأن القلوب عامرة بالإيمان بالله عز جل، فهي مستعدة لتنفيذ أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومثال آخر في المجتمع المسلم، حيث كان في أول الإسلام يمشي الرجال والنساء ويعرف بعضهم بعضاً، ويرى الرجل المرأة فيعرف أنها فلانة بنت فلان، ولم يكن قد نزل الحجاب، فلما أن أنزل الله الأمر بالحجاب التزم المسلمون بذلك من أول لحظة، حتى كان الإنسان ينظر إلى النساء وهن كالغربان، لا يرى فيهن أي شيء ظاهر على الإطلاق، فهل من السهل أن الإنسان يحجب زوجته إذا كانت طول حياته كاشفة؟!
ثم يمنع الذي ليس محرماً لها، مثل ابن العم وابن الخال وكل من ليس بمحرم لها أن يراها، هذه عمليه صعبه جداً، وكل من عاناها يعرف صعوبتها، لكن مع الإيمان ليس هناك صعب، وليس هناك مستحيل.
ولننظر إلى واقعنا المعاصر، ولا نتعرض إلى موضوع الحجاب، لأنه من المستحيل في الجاهلية المعاصرة، أن يكون هناك حجاب، لأن في قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)) [الأحزاب:33] إشارة إلى الجاهلية الكبرى التي ستأتي، والتي يتعدى تبرجها جميع الحدود إلى حد العري في العالم وكل ذلك باسم التقدم والتطور ولا تقدم ولا تطور إلا بالإيمان بالله عز وجل، وأذكر موقفاً عجيباً وهو أنه: لما خرجت أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى منهكة مجهدة، رغم أنها كانت منتصرة، وكان فيها من العقلاء من يفكر في مستقبلها -وكل أمة فيها من العقلاء من يفكر في أمرها حتى الأمم الكافرة- فقالوا: يجب علينا أن نحرم الخمر، والأطباء قدموا التقارير عن أضرار الخمر، والمصلحون الاجتماعيون كتبوا وتكلموا عن أضرارا الخمر وأقنعوا الحكومة المركزية أن الخمر أضرارها عظيمة جداً، فأعلنت أمريكا رسمياً تحريم الخمر، وأعلن ذلك في جميع أنواع الدعاية، وجندت الجنود وجميع هيئات ولجان التفتيش لمحاربة الخمر، وجندت الجنود -أيضاً- على مداخل البلد حتى يمنع الاستيراد، وفي الداخل أقفلت المصانع وحوربت، وكانت حركة عجيبة جداًَ، بالإضافة إلى الإعلان في الصحف والنشرات والملصقات، كل ذلك أتُّخذ من أجل أن يقتنع الشعب الأمريكي بترك الخمر، واستمروا على ذلك فترة، ثم طلبت الحكومة التقارير عما حدث، وإذا بالتقارير تقول: إن الخمر يشرب أكثر مما كان!! وإن الخمر أصبح فناً لا تستطيع الجهات الرسمية أن تلاحقه!! فقالوا: استمروا وزيدوا في الدعاية وزيدوا في النفقة ولا يمكن أن نتراجع، فزادوا واجتهدوا، ثم جاءت التقارير تقول أيضاً: زادت الخمر وزاد تهريب الخمر، وزادت مصانع الخمر، واللجان التي تفتش عن شرب الخمر هي التي تشربها! وهي التي تبني المصانع من أجلها!! أمر مستحيل لا يمكن!! وعرض الموضوع على الإدارة المركزية وعلى الكونجرس وبحث ثم بحث.. وأخيراً: أعلنت أمريكا فشلها وأعلنت أن الخمر حلال!!
لماذا لم ينجحوا؟
ولماذا في المجتمع المسلم أريقت في لحظات وانتهت المشكلة؟
ولماذا هذه الدول التي يقال: إنها متقدمة ومتطورة فشلت في ذلك، هل هو نقص في التكنولوجيا؟!
وهل هو نقص في وسائل المراقبة؟!
أو نقص في الإمكانات البشرية؟!
أو في فن الدعاية؟!
إنه شيء واحد ننساه ونغفل عنه، إنه الإيمان!!
بلا إيمان لا يمكن أن يستقيم الإنسان -لا فرداً ولا أمة- ولا يمكن أن يكون الإنسان إنساناً حقيقياً أبداً إلا إذا كان مؤمناً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مطبقاً لما جاء عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحذافيره، فيترقى في درجات الخير وفي الرقي وفي الكرامة وفي العزة، بقدر ما يترقى في الاجتهاد لتطبيق هذا الدين في نفسه وفي مجتمعه وفي أمته، فرداً كان أو أمة لا يختلف الحال، هذا هو الأساس الذي لابد أن يدور عليه صلاح الأمم جميعاً.